الأربعاء، ديسمبر 01، 2010

جورج طرابيشي - من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث : قراءة نقدية - 2




قراءة نقدية في الفصل الثاني


"من النبي الأمّي إلى النبي الأممي"


يستمر جورج طرابيشي بممارسة انتقائيته في تعامله مع النصوص غير مهتم سوى بالتدليل على فكرته، غاضا النظر عن النصوص التي أقل ما يقال فيها أنها تطرح إشكالات على منهجيته في الإستدلال، حتى أنه يدفع القارئ إلى التساؤل: هل فعلا قرأ جورج طرابيشي القرآن ؟ أم أنه يكتفي بالبحث في نص القرآن عن المفردات التي يريد الإستدلال بها ؟

هذا السؤال يطرح نفسه في الفصل الأول أيضا، لكن القارئ الذي يتغاضى عنه هناك، لا يستطيع التغاضي عنه في هذا الفصل، خصوصا حين يقرر طرابيشي بثقة مطلقة أن (جميع المؤوِّلين الذين أرادوا تحويل النبي «الأمِّي» إلى نبي «أممي»، أي نبي أمم الأرض كافة، وليس فقط نبي الأمِّيين العرب المرسل بلسانهم منهم وإليهم، ما استطاعوا أن يفوزوا في آي القرآن الستة آلاف ونيف جميعها إلا بآية واحدة هي الآية الثامنة والعشرون من سورة سبأ: (وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) [ص. 95]

فأين ذهب قوله تعالى: (تبارك الذي نزّل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيرا) ؟ وقوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) ؟ وغيرها من الآيات ؟

وطرابيشي، الذي مارس عملية تأويل وتحريف لمفردة "الناس" سأتعرض لها فيما يلي، نجده يغض الطرف تماما عن مفردة "العالمين"...

فحتى يثبت طرابيشي طرحه بأن الرسول مرسل لقومه فقط، وحتى يتجاوز الإشكالية التي تطرحا مفردة "الناس" في عمومها ودلالتها، قرر (الترادف بين «الناس» و«الأمة») [ص. 97]. ورغم إقراره أن كلمة الناس (ترد في القرآن 240 مرة) [ص. 97] إلا أنه لم يكلف نفسه عناء الإستدلال سوى ببضعة آيات حاول تأويلها وحملها قسرا للدلالة على طرحه بأنه (غالباً ما يتطابق معنى «الناس» مع معنى «القوم» و«الأمة») [ص. 97]

وأشدد على الحمل القسري، وإلا كيف نفهم استدلاله بنذر زكريا الصوم عن تكليم "الناس" بأنه امتناع عن تكليم قومه فقط ؟ فهل لو جاءه شخص من خارج قومه لكلمه ؟
وكيف نفهم تكليم عيسى للناس في المهد بأنه تكليم لقومه فقط ؟ فهل لو جاء شخص من خارج قومه لم يكلمه ؟

ولو كان طرابيشي موضوعيا في محاولته فهمه دلالة كلمة "الناس" في القرآن، لاستدل بسورة تحمل هذا العنوان، ألا وهي سورة الناس، وقوله تعالى في افتتاحها (قل أعوذ برب الناس) فهل "الناس" هنا هي بمعنى "القوم" أو "الأمة" أو "بعض الناس" كما يقرر طرابيشي أم تعمّ الناس جميعهم ؟

ولأجل تأكيد أن الناس تعني القوم و (لا تعني البشرية قاطبة في زمن لم يكن فيه هذا المفهوم قد وجد بعد) [ص. 97]، رغم أن كلمة "العالمين" التي تغاضى عنها طرابيشي تدلل على هذا المعنى، يتوقف طرابيشي عند مسألة كون الرسول عربي، والقرآن عربي، وقوم الرسول عربا، ليقرر (أن العلاقة حصرية بين عروبة القرآن وعروبة الأمة أو القوم الذين أنزل برسمهم) [ص. 96] وهذا التقرير يطرح إشكالية سبق أن تطرق لها المستشرق "جاك بيرك" في كتابه "إعادة قراءة القرآن" حول اللغة التي كان يستعملها المسيح ولغة الإنجيل؛ حيث كان المسيح يعيش في وسط لساني شديد الإختلاط، في فلسطين التي كانت تجمع حينها جنسيات مختلفة، فهل تكلم المسيح الآرامية أو العبرية أو الإغريقية أو اليونانية ؟
وهل تكلمه بالآرامية، وهو الراجح، يعني وجود حاجز بينه وبين اليهود الذين كانوا يتكلمون العبرية ؟

وإمعانا في تكريس خصوصية الرسالة وعزلها حتى عن محيطها، وأمام إشكالية الآيات التي تتوجه إلى أهل الكتاب، اليهود والنصارى، يخرج طرابيشي من هذا الإشكال بتقريره وقوف (حدود مبعوثية الرسول إلى أهل الكتاب من العرب من دون أن تتعداها إلى إتيانهم بدين جديد ومطالبتهم بالتالي بتغيير دينهم: فكل ما هنالك أنهم مدعوون إلى العودة إلى كتابهم الأصلي) [ص. 92 – هامش 7] هكذا، وببساطة، يتغاضى طرابيشي عن الآيات التي تكفر أهل الكتاب، وتلك التي تدعوهم صراحة إلى الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والتي تقرر أن الإسلام هو الدين الوحيد المقبول... ممارسا مرة أخرى انتقائيته في التعامل مع النصوص وتسخيرها في خدمة طروحاته...

ويبدو أن هذه الإنتقائية في التعامل مع النصوص تولد لديه ثقة عالية بالنفس، هذه الثقة تدفعه لاقتحام مجالات لا ناقة له فيها ولا جمل، حتى ليصحّ فيه قول الشاعر: ليس هذا بعُشّك فادرجي...

فقتادة بن دعامة السدوسي، تلميذ مجاهد الذي ختم القرآن سبع مرات على ابن عباس يوقفه عند كل آية منه ويسأله عنها، هو عند طرابيشي (ليس من أهل التأويل، بل هو حصرا من أهل الحديث) [ص. 96]

ولا يكف "المحدّث" طرابيشي عن إدهاشنا عند هذا الحد، بل يطلق حكما مبرما في حديث (بعثت إلى الناس عامة) وبلفظ (إلى كل أحمر وأسود) الذي أخرجه البخاري ومسلم، لأن هشيم بن بشير راوي الحديث (انفرد برواية تينك الروايتين) [ص. 99] كما أن هشيما (لا يتمتع بسمعة حسنة لدى أهل صنعة الحديث) [ص. 99]

رغم أنه ينقل إجماع المحدثين على توثيق هشيم، لكنه يتعلق بوصفهم إياه بالتدليس، متغاضيا عن أن المحدثين يفرقون بين التدليس والكذب، هذا أولا، فالمدلس عند المحدثين لا يعني أنه كذاب فكيف إذا كانوا يوثقونه ؟ أما ثانيا، فهشيم حين روى هذا الحديث صرّح بالتحديث والسماع، مما يزيل عنه صفة التدليس في هذه الرواية، كما بيّن ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري... أما ثالثا، فالمحدث طرابيشي أخطأ حين ادعى أن هشيما انفرد برواية الحديث، فالحديث له روايات مختلفة من غير طريق هشيم، كما أن للحديث أسانيد إلى صحابة مختلفين يروونه بنفس المعنى لكن بألفاظ مختلفة، مما يدل على أن معنى الحديث قد ورد في وقائع مختلفة، وهذا يعزز دلالة الحديث وينقض ما يحاول طرابيشي إثباته...

وحتى يختم طرابيشي مبحثه، لا يفوته أن يختم مبحثه بلفتة غير متقنة، هذه اللفتة، التي يبدو أنه كان متحمسا لها لدرجة أنه لم ينتبه لتناقضين وقع فيهما أثناء عرضها، هي دعواه بأن (الغالبية الساحقة من رواة السنَّة ومن مدوِّني السنَّة كانوا من الموالي) [ص. 101 - 102] والموالي عنده هم (من أعاجم البلدان المفتوحة) [ص. 102] وهذا المعنى يؤكده لاحقا بقوله عن الموالي بأنهم (الأرقاء المعتوقين من الأعاجم وأحفادهم) [ص. 105] رغم إقراره بأن (لا كل الموالي كانوا من الأعاجم) [ص. 104 – هامش 33] فبعد هذا التناقض، يحق لنا التساؤل: هل قام بعملية إحصاء دقيقة وصل من خلالها إلى هذه النتيجة أم أنه اعتمد على روايات لا يثق فيها لتقريرها ؟

وحتى تتم سلسلة التناقضات، يقرر طرابيشي أن (تسييد السنَّة قد تلاقت فيه مصالح الأوتوقراطية العربية الفاتحة ومصالح النخب والشرائح المثقفة من شعوب البلدان المفتوحة) [ص. 105] وأن هناك (تلاقي المصالح بين نخب الفاتحين ونخب البلدان المفتوحة في تأميم الرسول العربي) [ص. 106] هذا التقرير يدفعنا للتساؤل مجددا: هل الموالي (الأرقاء المعتوقين من الأعاجم وأحفادهم) هم (النخب والشرائح المثقفة من شعوب البلدان المفتوحة) ؟

كل هذه التساؤلات، وغيرها، تدفعنا بلا شك إلى إعادة النظر، بعقلانية، في أطروحة طرابيشي بأكملها...

ليست هناك تعليقات: