السبت، ديسمبر 11، 2010

الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر - محمود شاكر


مقالة شيخ العربية في عصره الأستاذ أبو فهر محمود شاكر رحمه الله التي نشرها في مجلة القاهرة - العدد الرابع عشر بتاريخ الثلاثاء 7 مايو 1985م، ردا على الدعوات لتنقيح كتاب "ألف ليلة وليلة" وعنوانها :

"الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر"





الجمعة، ديسمبر 10، 2010

مقاصد الشريعة الإسلامية - الطاهر بن عاشور




مقاصد الشريعة الإسلامية

تأليف: الإمام محمد الطاهر بن عاشور

الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة


مرّ عليّ زمن طويل لم أقرأ فيه كتابا يشدّني إلى موضوعه مثل هذا الكتاب. ورغم أني لست ضليعا في علم أصول الفقه وأجد صعوبة في فهم بعض مصطلحاته، إلا أن أسلوب الكاتب، وهو الذي كان حجة في اللغة، إضافة لموضوع الكتاب، جعلا من قراءة هذا الكتاب متعة كبيرة ... وأرى أنه يحتاج إلى إعادة قراءة مرات ومرات ...

استهل الإمام ابن عاشور كتابه بإثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها وطرق إثباتها ومراتبها وبيان الخطر العارض من إهمال النظر إليها. وذكر اثنتي عشرة حالاً من أحوال الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصدر عنها قوله أو فعله، وهي: "التشريع والفتوى والقضاء والإمارة والهدي والصلح والإشارة على المستشير والنصيحة وتكميل النفوس وتعليم الحقائق العالية والتأديب والتجرد عن الإرشاد" وضرب أمثلة من السنة لكل حال من هذه الأحوال، وبيّن أنه لا ينبني على كل هذه الأحوال تشريع وأحكام، غير أن أشد هذه الأحوال اختصاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم هي حال التشريع لأن التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعثته ... فلذلك يجب اعتبار ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة صادرا مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك.

ثم قسم الإمام ابن عاشور المقاصد بحسب العموم والخصوص:

1- مقاصد التشريع العامة: «وهي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحِكَم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها». وذكر من بين هذه المقاصد العامة: حفظ النظام، وجلب المصالح ودرء المفاسد، وإقامة المساواة بين الناس، وجعل الأمة قوية مرهوبة الجانب.

2- مقاصد التشريع الخاصة: «وهي الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة ... ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس، مثل قصد التوثق في عقد الرهن، وإقامة نظام المنـزل والعائلة في عقدة النكاح».

ويجمع هذين القسمين المقصد العام للتشريع وهو: «حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان»

ويرى الإمام ابن عاشور أن مقاصد الشريعة الإسلامية مبنية على وصف هذه الشريعة الأعظم الذي هو الفطرة النفسية والعقلية فقوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون" (التين) ليس المقصود منه أن الله عز وجل قوّم صورة البشر لأن هذه الصورة لم تتغير إلى أسفل. واستثناء الذين آمنوا من هذا التغيير يدلنا على أن المقصود تقويم العقل الذي هو مصدر العقائد الحقة والأعمال الصالحة وليس تقويم الصور.

أما أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها فهو السماحة ويعني بها السهولة المحمودة المتوسطة بين التضييق والتسهيل وهذا هو معنى الوسطية ويرى أن السماحة عائدة إلى كون الشريعة دين الفطرة، والفطرة تنفر من الشدة والإعنات.

والمقصد العام من التشريع عند الإمام ابن عاشور هو "حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه: صلاح عقله وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه". ويستدل على ذلك بآيات صريحة كلية تدل على أن مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد، منها ما يحكيه كتاب الله عن شعيب: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" (هود) وقول موسى لهارون: "خلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين" (الأعراف) وقوله تعالى: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" (الأعراف).

وهذا المقصد العام يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد، وهو يقسم المصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، وباعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها إلى كلية وجزئية، والكلية ما عادت عوداً متماثلاً على عموم الأمة أو جماعة عظيمة منها، فأما ما عاد على جميع الأمة فمثل حماية البيضة وحفظ الجماعة من التفرق وحفظ الدين من الزوال وحماية الحرمين وحفظ القرآن من انقضاء الحفاظ وتلف المصاحف وحفظ السنة من الموضوعات، وأما ما عاد على جماعة عظيمة من الأمة فمثل العهود بين أمراء المسلمين وملوك الأمم المخالفة وأما المصلحة الجزئية فهي مصلحة الفرد أو الأفراد القليلة وهي موضوع أحكام المعاملات.

وقسم المصلحة باعتبار تحقق الحاجة إلى جلبها أو دفع الفساد عن أن يحيق بها إلى قطعية دلت عليها نصوص لا تحتمل التأويل أو دل العقل على أن في تحصيلها صلاحاً عظيماً أو في ضدها ضرراً عظيماً، وأما الظنية فما كان دليلها ظنياً وأما الوهمية فهي التي يتخيل فيها الصلاح وفيها عند التأمل الضر.

ويقسم الإمام ابن عاشور المعاملات إلى مقاصد ووسائل، والوسائل هي الأحكام التي شرعت غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه الأكمل فالإشهاد في عقد النكاح وشهرته غير مقصودين لذاتهما وإنما شرعا لأنهما وسيلة لإبعاد صورة النكاح عن شوائب السفاح والمخادنة.

وقد استدرك الإمام ابن عاشور على علامة المقاصد الإمام الشاطبي ورد فيه أيضا على اقتراح الإمام القرافي بخصوص إدراج العرض ضمن الضروريات الخمس، مقترحا أن تضاف الحرية والمساواة إلى قائمة الضروريات.

وهذه سلسلة مقالات ذات صلة من سبعة أجزاء وخلاصة بعنوان "رؤية تقويمية لإسهامات الشاطبي وابن عاشور المقصدية":


http://assabilonline.net/index.php?o...d=52&Itemid=39
http://assabilonline.net/index.php?o...d=60&Itemid=39
http://assabilonline.net/index.php?o...d=99&Itemid=39
http://assabilonline.net/index.php?o...=115&Itemid=39
http://assabilonline.net/index.php?o...=137&Itemid=39
http://assabilonline.net/index.php?o...=148&Itemid=39
http://assabilonline.net/index.php?o...=177&Itemid=39
http://www.assabilonline.net/index.p...=207&Itemid=39

العنوان الصحيح للكتاب - الشريف حاتم بن عارف العوني




العنوان الصحيح للكتاب
تعريفهُ وأهميتهُ. وسائل معرفتهِ وإحكامه. أمثلةٌ للأخطاءِ فيهِ

تأليف: الشريف حاتم بن عارف العوني

الناشر: دار عالم الفوائد


يحدّد المؤلف في مقدمة هذا الكتاب غاية علم التحقيق بأنها الحفاظ على علوم الأمة المكتوبة وإحياؤها بالنشر وتيسير الإنتفاع بها لأبناء الأمة.


ثم يشير إلى الأصول القديمة لعلم التحقيق عند علمائنا الأولين وإبداعهم فيه، كما يتطرق إلى اختلاف مناهج المحققين وتباينها واتفاقهم على أربعة أصول وهي أن الكتاب المحقق هو:


1- الذي صح عنوانه
2- واسم مؤلفه
3- ونسبة الكتاب إليه
4- وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصور التي تركها المؤلف


وغرض هذا الكتاب هو تناول الركن الأول (صحة عنوان الكتاب) بالدراسة "حيث إن الكتاب الذي لم يصح عنوانه، فانهدم أحد أركان تحقيقه، لا يوصف بأنه مُحقق.. إلا تجوّزا!!"


فبعد تعريف العنوان الصحيح للكتاب وأهميته ووسائل معرفته، يذكر الكاتب نماذج من الأخطاء الواقعة في عناوين الكتب تصل إلى خمسين مثالا إلا ثلاثا مبتدئا بصحيح البخاري وعنوانه هو "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه" مرورا بـ"البيان والتبيين" للجاحظ وعنوانه الصحيح "البيان والتبيّن" بياء واحدة مشددة مضمومة و"الأمالي" و"النوادر" لأبي علي القالي والصحيح أنها "النوادر وذيله".


وينبه الكاتب في بعض الأمثلة على الفوائد من استخدام العنوان الصحيح للكتاب في تقريب محتواه وتلخيصه وبيان المصطلحات التي يدرج عليها مصنّفه خصوصا حين يتعلق الأمر بكتب الحديث النبوي الشريف.


أمثلة من الكتاب:


- جامع الترمذي أو سنن الترمذي


قال الشيخ الشريف حاتم ( ص 54 ) : والكتاب الثالث الذي حقق عبد الفتاح أبو غدة اسمَه في كتابه المذكور آنفا – يقصد كتاب : تحقيق اسمي الصحيحين ، واسم جامع الترمذي - هو كتاب الترمذي ، فبين بالأدلة الواضحات أن اسمه هو ( الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة الصحيح والمعلول ، وما عليه العمل ) .


وقد طُبع كتاب الترمذي طبعات متعددة ، ولم تأت إحدى طبعاته بهذا العنوان الصحيح !! بل أشهر طبعاته التي بتحقيق المحدث أحمد بن محمد شاكر ( ت 1377 هـ ) كُتب على غلافها : ( الجامع الصحيح ، وهو سنن الترمذي ) .


وهذه التسمية خطأ محض ، لا هي عنوان الكتاب الصحيح ، ولا هي مطابقة لمضمون الكتاب ومنهجه . بخلاف العنوان الصحيح ذاك ، الذي هو من أوضح الأمثلة على أن العنوان الذي وضعه المؤلف أَقْدَرُ عنوان على وَصْفِ الكتاب وصفاً دقيقاً معبِّراً في كلمات يسيرات .


قلت هذا ، ثم طُبع كتاب الترمذي طبعة جديدة ، بعنوان ( الجامع الكبير ) !! فالترمذي يُسمِّي كتابه ( الجامع المختصر ) ، والمحقق يسميه ( الكبير ) !!! .ا.هـ.




- إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث لابن قتيبة ( ت 276 هـ )


قال الشيخ الشريف حاتم ( ص 82 ) : طُبع الكتاب بهذا العنوان ، والصواب في اسمه : ( إصلاح الغلط في غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله ) . فكذلك سُمي الكتاب على غلاف نسخة الكتاب الأصلية ، وكذلك سماه ابن خير في ( فِهْرِسْتِهِ ) لكن بزيادة كلمة ، حيث سماه ( إصلاح الغلط الواقع في غريب الحديث لأبي عبيد ) .ا.هـ.




- تلخيص الحبير لابن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ )


قال الشيخ الشريف حاتم ( ص 90 ) : طُبع هذا الكتاب طبعات متعددة بهذا العنوان ، وهو عنوان خطأٌ معنىً وحقيقةً ؛ أما خطأ معناه ، فلأن الحبير وصفٌ لا يليق بالمؤلف ، حتى يقال ( تلخيص الحبير ) ، حيث إنه بمعنى الحسن أو الجديد أو الفَرِح ؛ وهذه أوصاف تصح للكتاب ، فهو التلخيص الحسن والجديد والسعيد ( مجازا ، لحسن تأليفه ! ) . وأما خطؤه في حقيقته ، فلأن السخاوي والبقاعي وهما من تلامذة المصنف سمّياه بـ ( التلخيص الحبير ) ؛ فهذا هو عنوانه .ا.هـ.




يقول أبو حسن: هذا الكتاب أيضا لا غنى عنه لمن يعشق التراث العربي ...

الأربعاء، ديسمبر 01، 2010

جورج طرابيشي - من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث : قراءة نقدية - 2




قراءة نقدية في الفصل الثاني


"من النبي الأمّي إلى النبي الأممي"


يستمر جورج طرابيشي بممارسة انتقائيته في تعامله مع النصوص غير مهتم سوى بالتدليل على فكرته، غاضا النظر عن النصوص التي أقل ما يقال فيها أنها تطرح إشكالات على منهجيته في الإستدلال، حتى أنه يدفع القارئ إلى التساؤل: هل فعلا قرأ جورج طرابيشي القرآن ؟ أم أنه يكتفي بالبحث في نص القرآن عن المفردات التي يريد الإستدلال بها ؟

هذا السؤال يطرح نفسه في الفصل الأول أيضا، لكن القارئ الذي يتغاضى عنه هناك، لا يستطيع التغاضي عنه في هذا الفصل، خصوصا حين يقرر طرابيشي بثقة مطلقة أن (جميع المؤوِّلين الذين أرادوا تحويل النبي «الأمِّي» إلى نبي «أممي»، أي نبي أمم الأرض كافة، وليس فقط نبي الأمِّيين العرب المرسل بلسانهم منهم وإليهم، ما استطاعوا أن يفوزوا في آي القرآن الستة آلاف ونيف جميعها إلا بآية واحدة هي الآية الثامنة والعشرون من سورة سبأ: (وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) [ص. 95]

فأين ذهب قوله تعالى: (تبارك الذي نزّل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيرا) ؟ وقوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) ؟ وغيرها من الآيات ؟

وطرابيشي، الذي مارس عملية تأويل وتحريف لمفردة "الناس" سأتعرض لها فيما يلي، نجده يغض الطرف تماما عن مفردة "العالمين"...

فحتى يثبت طرابيشي طرحه بأن الرسول مرسل لقومه فقط، وحتى يتجاوز الإشكالية التي تطرحا مفردة "الناس" في عمومها ودلالتها، قرر (الترادف بين «الناس» و«الأمة») [ص. 97]. ورغم إقراره أن كلمة الناس (ترد في القرآن 240 مرة) [ص. 97] إلا أنه لم يكلف نفسه عناء الإستدلال سوى ببضعة آيات حاول تأويلها وحملها قسرا للدلالة على طرحه بأنه (غالباً ما يتطابق معنى «الناس» مع معنى «القوم» و«الأمة») [ص. 97]

وأشدد على الحمل القسري، وإلا كيف نفهم استدلاله بنذر زكريا الصوم عن تكليم "الناس" بأنه امتناع عن تكليم قومه فقط ؟ فهل لو جاءه شخص من خارج قومه لكلمه ؟
وكيف نفهم تكليم عيسى للناس في المهد بأنه تكليم لقومه فقط ؟ فهل لو جاء شخص من خارج قومه لم يكلمه ؟

ولو كان طرابيشي موضوعيا في محاولته فهمه دلالة كلمة "الناس" في القرآن، لاستدل بسورة تحمل هذا العنوان، ألا وهي سورة الناس، وقوله تعالى في افتتاحها (قل أعوذ برب الناس) فهل "الناس" هنا هي بمعنى "القوم" أو "الأمة" أو "بعض الناس" كما يقرر طرابيشي أم تعمّ الناس جميعهم ؟

ولأجل تأكيد أن الناس تعني القوم و (لا تعني البشرية قاطبة في زمن لم يكن فيه هذا المفهوم قد وجد بعد) [ص. 97]، رغم أن كلمة "العالمين" التي تغاضى عنها طرابيشي تدلل على هذا المعنى، يتوقف طرابيشي عند مسألة كون الرسول عربي، والقرآن عربي، وقوم الرسول عربا، ليقرر (أن العلاقة حصرية بين عروبة القرآن وعروبة الأمة أو القوم الذين أنزل برسمهم) [ص. 96] وهذا التقرير يطرح إشكالية سبق أن تطرق لها المستشرق "جاك بيرك" في كتابه "إعادة قراءة القرآن" حول اللغة التي كان يستعملها المسيح ولغة الإنجيل؛ حيث كان المسيح يعيش في وسط لساني شديد الإختلاط، في فلسطين التي كانت تجمع حينها جنسيات مختلفة، فهل تكلم المسيح الآرامية أو العبرية أو الإغريقية أو اليونانية ؟
وهل تكلمه بالآرامية، وهو الراجح، يعني وجود حاجز بينه وبين اليهود الذين كانوا يتكلمون العبرية ؟

وإمعانا في تكريس خصوصية الرسالة وعزلها حتى عن محيطها، وأمام إشكالية الآيات التي تتوجه إلى أهل الكتاب، اليهود والنصارى، يخرج طرابيشي من هذا الإشكال بتقريره وقوف (حدود مبعوثية الرسول إلى أهل الكتاب من العرب من دون أن تتعداها إلى إتيانهم بدين جديد ومطالبتهم بالتالي بتغيير دينهم: فكل ما هنالك أنهم مدعوون إلى العودة إلى كتابهم الأصلي) [ص. 92 – هامش 7] هكذا، وببساطة، يتغاضى طرابيشي عن الآيات التي تكفر أهل الكتاب، وتلك التي تدعوهم صراحة إلى الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والتي تقرر أن الإسلام هو الدين الوحيد المقبول... ممارسا مرة أخرى انتقائيته في التعامل مع النصوص وتسخيرها في خدمة طروحاته...

ويبدو أن هذه الإنتقائية في التعامل مع النصوص تولد لديه ثقة عالية بالنفس، هذه الثقة تدفعه لاقتحام مجالات لا ناقة له فيها ولا جمل، حتى ليصحّ فيه قول الشاعر: ليس هذا بعُشّك فادرجي...

فقتادة بن دعامة السدوسي، تلميذ مجاهد الذي ختم القرآن سبع مرات على ابن عباس يوقفه عند كل آية منه ويسأله عنها، هو عند طرابيشي (ليس من أهل التأويل، بل هو حصرا من أهل الحديث) [ص. 96]

ولا يكف "المحدّث" طرابيشي عن إدهاشنا عند هذا الحد، بل يطلق حكما مبرما في حديث (بعثت إلى الناس عامة) وبلفظ (إلى كل أحمر وأسود) الذي أخرجه البخاري ومسلم، لأن هشيم بن بشير راوي الحديث (انفرد برواية تينك الروايتين) [ص. 99] كما أن هشيما (لا يتمتع بسمعة حسنة لدى أهل صنعة الحديث) [ص. 99]

رغم أنه ينقل إجماع المحدثين على توثيق هشيم، لكنه يتعلق بوصفهم إياه بالتدليس، متغاضيا عن أن المحدثين يفرقون بين التدليس والكذب، هذا أولا، فالمدلس عند المحدثين لا يعني أنه كذاب فكيف إذا كانوا يوثقونه ؟ أما ثانيا، فهشيم حين روى هذا الحديث صرّح بالتحديث والسماع، مما يزيل عنه صفة التدليس في هذه الرواية، كما بيّن ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري... أما ثالثا، فالمحدث طرابيشي أخطأ حين ادعى أن هشيما انفرد برواية الحديث، فالحديث له روايات مختلفة من غير طريق هشيم، كما أن للحديث أسانيد إلى صحابة مختلفين يروونه بنفس المعنى لكن بألفاظ مختلفة، مما يدل على أن معنى الحديث قد ورد في وقائع مختلفة، وهذا يعزز دلالة الحديث وينقض ما يحاول طرابيشي إثباته...

وحتى يختم طرابيشي مبحثه، لا يفوته أن يختم مبحثه بلفتة غير متقنة، هذه اللفتة، التي يبدو أنه كان متحمسا لها لدرجة أنه لم ينتبه لتناقضين وقع فيهما أثناء عرضها، هي دعواه بأن (الغالبية الساحقة من رواة السنَّة ومن مدوِّني السنَّة كانوا من الموالي) [ص. 101 - 102] والموالي عنده هم (من أعاجم البلدان المفتوحة) [ص. 102] وهذا المعنى يؤكده لاحقا بقوله عن الموالي بأنهم (الأرقاء المعتوقين من الأعاجم وأحفادهم) [ص. 105] رغم إقراره بأن (لا كل الموالي كانوا من الأعاجم) [ص. 104 – هامش 33] فبعد هذا التناقض، يحق لنا التساؤل: هل قام بعملية إحصاء دقيقة وصل من خلالها إلى هذه النتيجة أم أنه اعتمد على روايات لا يثق فيها لتقريرها ؟

وحتى تتم سلسلة التناقضات، يقرر طرابيشي أن (تسييد السنَّة قد تلاقت فيه مصالح الأوتوقراطية العربية الفاتحة ومصالح النخب والشرائح المثقفة من شعوب البلدان المفتوحة) [ص. 105] وأن هناك (تلاقي المصالح بين نخب الفاتحين ونخب البلدان المفتوحة في تأميم الرسول العربي) [ص. 106] هذا التقرير يدفعنا للتساؤل مجددا: هل الموالي (الأرقاء المعتوقين من الأعاجم وأحفادهم) هم (النخب والشرائح المثقفة من شعوب البلدان المفتوحة) ؟

كل هذه التساؤلات، وغيرها، تدفعنا بلا شك إلى إعادة النظر، بعقلانية، في أطروحة طرابيشي بأكملها...

جورج طرابيشي - من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث : قراءة نقدية - 1




قراءة نقدية في الفصل الأول 

"الله والرسول: الشارع والمُشرَّع له"

من الصفحة الأولى لهذا الفصل، يُعلن جورج طرابيشي النتيجة التي يريد لمبحثه ذي الثمانين صفحة أن يكرسها: محمد هو مُبلّغ فقط، ووظيفته هي (الوظيفة الإبلاغية الحصرية) [ص. 9] لكنه لا يقرّر هذه النتيجة، كما سنرى، إلا بعد وقوعه في جُملة من المغالطات والممارسات الإنتقائية في اختيار النصوص وتأويلها...

أول هذه المغالطات، سعيه في التخلص من إشكالية كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا في آن، ليقرر بكل ثقة في النفس أن الله (يسمي محمد في عشرات الآيات "رسول الله" ولا يسميه في آية واحدة "نبي الله") [ص. 9-10] هكذا وبكل جرأة، يُلغي عشرات الآيات التي تبدأ بنداء (يا أيها النبي...) أو التي تنسب وصف النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم (ما كان لنبي...)، (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم...)، (يا نساء النبي...)، لا لشيء سوى لتكريس مفهومه عن الرسول مستثمرا ما ينطوي عليه لفظ "الرسول" من دلالة لغوية ليصل إلى النتيجة التي قررها سلفا، من خلال إعادة صياغة تعريف "الرسول" ودوره، من وجهة نظره، ليصير (مكفوف اليد من الناحية التشريعية، فضلا عن أنه معطل عن الإرادة، منهي عن المبادرة، ومطالب بالخضوع التام من حيث هو مُرسَل للمشيئة الإلهية المرسِلة، وهذا تحت طائلة العقاب) [ص. 11]

ويسوق، في سبيل تكريس هذه الصورة عن الرسول والتعريف بدوره، إن كان بقي له دور، عشرات الآيات، في محاولة لتأكيد أن طرحه لم يأت من فراغ، مصنفا إياها تحت عناوين مختلفة:
أ‌- آيات تقصر وظيفة الرسول على تبليغ الرسالة [ص. 11]
ب‌- آيات تحذر الرسول من استباق القرآن أو استعجال الوحي أو مجرد التمنّي فيه [ص. 14]
ج- آيات يعلق الرسول الحكم بصددها بانتظار الوحي [ص. 18] 
د- آيات تردع الرسول أو تلومه على مواقف اتخذها أو همّ باتخاذها أو مبادرات بادر إليها بدون أن يكون له مرجع أو سند من الوحي [ص. 30]
هـ- آيات تتدخل في الحياة الخاصة للرسول وتحدد له ما هو مباح أو محرم حتى في علاقاته الجنسية [ص. 43]

وهو ينطلق في قراءته لهذه الآيات من خلال البناء على مفاهيم يعتبرها مسلمات، بينما هي ليست كذلك. أولها ما سبقت الإشارة إليه من أن محمدا رسول وليس نبيا، وثانيها جعل الوحي عنده مرادف للقرآن، وعلى هذا يحمل قوله تعالى (ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)... جاعلا الوحي (إشكالية خطيرة من إشكاليات اللاهوت الإسلامية بقيت أسيرة اللامفكَّر به) [ص. 10 – هامش 3] متغافلا عن الآيات التي تعطي الوحي معاني أرحب ومفاهيم أوسع من المفهوم الذي يريد حصره فيه كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل...) وقوله: (وأوحينا إلى أم موسى...)

ثم يتطرق طرابيشي للآيات التي تكرس ثنائية طاعة الله وطاعة الرسول، ليستنتج منها أن (أمر الناس بإطاعة الرسول لا تعني تخويله سلطة تشريعية - هي من حق الله وحده - بل تعني طاعته في ما يدعوهم إليه من الإيمان بما أنزل إليه من ربه، أي التصديق بالرسالة التي حُمِّلها للناس) [ص. 70]

فكأن الرسول عنده لا ينطق إلا بالقرآن والقرآن فقط، وكأن دعوته لقومه لا تستلزم منه مزيد بيان لما يتضمنه الوحي، وما يتبع هذا البيان من تفصيل للأحكام وتوضيح للمُشكلات، حيث أنه من المعلوم أن القرآن يتضمن الأصول الإجمالية لكثير من الأحكام والعبادات الأساسية، كالصلاة مثلا، في حين أن تفاصيل هذه الأحكام لم ترد إلا من خلال بيان النبي لها... فهل هذا البيان من النبي مما لم يرد في القرآن ملزم أم ليس بملزم ؟ 

فإن كان ملزما، أليس هذا مناقض لدور الرسول كما يعرّفه طرابيشي ؟ ألا يُصبح من قبيل تدخل الرسول في الوحي وتجاوزه لوظيفته ؟

وإن لم يكن ملزما، ألا يتناقض هذا مع قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم) حيث فرّق تعالى بين الذكر المُنزل وبين بيانه ؟

هذه الإشكالية تجاوزها طرابيشي دون الإشارة إليها... ولو أنه لم يقصُر الوحي على القرآن فقط، لتبيّن له أن لا إشكالية بين الآيات التي ساقها في توضيح مفهومه للرسالة وبين دور الرسول في بيان وشرح وتفصيل ما أوحي إليه، وهذا البيان والشرح والتفصيل ليس سوى سنته التي يعتبرها طرابيشي (الغائب الكبير في النص القرآني) [ص. 85] في حين أنه لو أعاد النظر في مفهومه للوحي والرسالة ودور الرسول، لوجدها، أي السنة، واضحة جلية في ثنايا النص القرآني...

ومن المآخذ على طرابيشي في مبحثه هذا، الإنتقائية التي يمارسها في التعامل مع النصوص لتطويعها في خدمة مشروعه؛ فنجده يتمحّل التأويلات لقوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه) وينتقي من كلام المفسرين ما يخدم فكرته، في حين أن هذه الآية مفسرة بوضوح وجلاء في قوله تعالى (لا تُحرّك به لسانك لتعجل به) كما ذهب إليه أغلب المفسرين الذين يتغاضى طرابيشي عن نصوصهم بهذا الشأن ليصرّ على أن (هذه الآية تحتفظ بمدلولها كاملا من وجهة النظر التي تعنينا هنا، وذلك بقدر ما تدل على نهي الرسول عن استباق الوحي وإصدار حكم من عنده لم يأذن به الله) [ص. 15]

ورغم ما يبذله طرابيشي من جهد في جمع النصوص وحشدها لإثبات فكرته، إلا أنه يقر بأن هناك إشكالا في تعريفه للوحي وفهمه لدور الرسول حين يتوقف عند الآيات الثلاث الأولى من سورة التحريم، وخصوصا قوله تعالى (فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض) فيرى أن هذه الآيات (تُثير إشكالا آخر وأساسيا من منظرو لاهوت التنزيل القرآني) [ص. 49 – هامش 83] لكنه يكتفي بمواجهة هذا الإشكال من خلال طرح الأسئلة التالية:
(- إذا كان الله قد أظهر نبيه على ما فشت به بعض أزواجه، فهل هذا الإظهار من قبيل الوحي أم لا ؟
- وإذا كان من قبيل الوحي، فلماذا لم يترجم إلى تنزيل قولي في النص القرآني ؟
- إذا كان وحيا، فكيف جاز للنبي أن يعرّف بعضه ويُعرض عن بعض ؟) [ص. 49 – هامش 83]
دون أن يكلف نفسه عناء الإجابة عليها، أو أقله، مراجعة موقفه بشأن الوحي وتعريفه للرسالة ودور الرسول... ولو أنه قام بهذه المراجعة، لبان له تهافت ما يحاول إثباته...

ومن التناقضات التي وقع فيها طرابيشي تقريره (أن الرسول ما كان أمامه من خيار سوى أن يُشاور الناس لأنه كان في ذلك مأمورا بمقتضى الآية 159 من سورة آل عمران (وشاورهم في الأمر)) [ص. 62] ومحاولته تهويل موقف المفسرين وأهل الحديث من خلال (التملص من منطوق هذه الآية) [ص. 62] حتى أنه يتهم الوعي الديني أنه (ما كان له أن يطيق تصوّر الرسول مأمورا لا آمرا ناهيك عن أنه مأمور بأن يُشاور من قد يكونون أساؤوا إليه) [ص. 64]. من غير أن ينسى إعطاء أمثلة على مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الحرب والأسرى وغيرها... للتدليل على وجهة نظره...

ليعود بعدها ببضعة صفحات، وفي معرض محاولته تأويل، بل تحريف، الآيات التي تدعو لطاعة الله وطاعة الرسول، وتكرس ثنائية الطاعة من خلال التمييز بين طاعة الله وطاعة الرسول؛ ليقرّر أن هذه الآيات التي تأمر المؤمنين بطاعة الرسول (لا تأمرهم بإطاعته إلا في الأمور العملية، أو الدنيوية بتعبير أدق، من قبيل الحرب أو قسمة الغنائم) [ص. 71] فعجبا لهذا التناقض !

والعجب لا ينقضي من جرأة طرابيشي في تعطيل دور الرسول المُبيّن والموضّح والمفصّل ليحصره بالمبلّغ فقط، بل يتجاوز هذا التعطيل ليجعل الرسول في مستوى دون مستوى البشر...

ففي حين يحق لطرابيشي قراءة وتوجيه وتأويل النص القرآني، فإن الرسول ليس (له حق التصرّف أو التأويل) [ص. 84] بل حتى لو أراد الرسول ممارسة حقه الإنساني في أن يقول أو يفعل، فإنه عند طرابيشي لا (يصيب أو يخطئ كغيره من البشر، بل يضل بكل تأكيد !!!) [ص. 84]

فلم تعد المسألة تجريدا للرسول من دوره الرسالي ومحاولة تحريف هذا الدور، بل تجريده من إنسانيته ليصبح مجرد "صندوق بريد"... وهو التعبير الذي كان ينقص طرابيشي إستخدامه لتكتمل فكرته وتتضح دون أي لبس...