الأربعاء، ديسمبر 01، 2010

جورج طرابيشي - من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث : قراءة نقدية - 1




قراءة نقدية في الفصل الأول 

"الله والرسول: الشارع والمُشرَّع له"

من الصفحة الأولى لهذا الفصل، يُعلن جورج طرابيشي النتيجة التي يريد لمبحثه ذي الثمانين صفحة أن يكرسها: محمد هو مُبلّغ فقط، ووظيفته هي (الوظيفة الإبلاغية الحصرية) [ص. 9] لكنه لا يقرّر هذه النتيجة، كما سنرى، إلا بعد وقوعه في جُملة من المغالطات والممارسات الإنتقائية في اختيار النصوص وتأويلها...

أول هذه المغالطات، سعيه في التخلص من إشكالية كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا في آن، ليقرر بكل ثقة في النفس أن الله (يسمي محمد في عشرات الآيات "رسول الله" ولا يسميه في آية واحدة "نبي الله") [ص. 9-10] هكذا وبكل جرأة، يُلغي عشرات الآيات التي تبدأ بنداء (يا أيها النبي...) أو التي تنسب وصف النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم (ما كان لنبي...)، (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم...)، (يا نساء النبي...)، لا لشيء سوى لتكريس مفهومه عن الرسول مستثمرا ما ينطوي عليه لفظ "الرسول" من دلالة لغوية ليصل إلى النتيجة التي قررها سلفا، من خلال إعادة صياغة تعريف "الرسول" ودوره، من وجهة نظره، ليصير (مكفوف اليد من الناحية التشريعية، فضلا عن أنه معطل عن الإرادة، منهي عن المبادرة، ومطالب بالخضوع التام من حيث هو مُرسَل للمشيئة الإلهية المرسِلة، وهذا تحت طائلة العقاب) [ص. 11]

ويسوق، في سبيل تكريس هذه الصورة عن الرسول والتعريف بدوره، إن كان بقي له دور، عشرات الآيات، في محاولة لتأكيد أن طرحه لم يأت من فراغ، مصنفا إياها تحت عناوين مختلفة:
أ‌- آيات تقصر وظيفة الرسول على تبليغ الرسالة [ص. 11]
ب‌- آيات تحذر الرسول من استباق القرآن أو استعجال الوحي أو مجرد التمنّي فيه [ص. 14]
ج- آيات يعلق الرسول الحكم بصددها بانتظار الوحي [ص. 18] 
د- آيات تردع الرسول أو تلومه على مواقف اتخذها أو همّ باتخاذها أو مبادرات بادر إليها بدون أن يكون له مرجع أو سند من الوحي [ص. 30]
هـ- آيات تتدخل في الحياة الخاصة للرسول وتحدد له ما هو مباح أو محرم حتى في علاقاته الجنسية [ص. 43]

وهو ينطلق في قراءته لهذه الآيات من خلال البناء على مفاهيم يعتبرها مسلمات، بينما هي ليست كذلك. أولها ما سبقت الإشارة إليه من أن محمدا رسول وليس نبيا، وثانيها جعل الوحي عنده مرادف للقرآن، وعلى هذا يحمل قوله تعالى (ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)... جاعلا الوحي (إشكالية خطيرة من إشكاليات اللاهوت الإسلامية بقيت أسيرة اللامفكَّر به) [ص. 10 – هامش 3] متغافلا عن الآيات التي تعطي الوحي معاني أرحب ومفاهيم أوسع من المفهوم الذي يريد حصره فيه كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل...) وقوله: (وأوحينا إلى أم موسى...)

ثم يتطرق طرابيشي للآيات التي تكرس ثنائية طاعة الله وطاعة الرسول، ليستنتج منها أن (أمر الناس بإطاعة الرسول لا تعني تخويله سلطة تشريعية - هي من حق الله وحده - بل تعني طاعته في ما يدعوهم إليه من الإيمان بما أنزل إليه من ربه، أي التصديق بالرسالة التي حُمِّلها للناس) [ص. 70]

فكأن الرسول عنده لا ينطق إلا بالقرآن والقرآن فقط، وكأن دعوته لقومه لا تستلزم منه مزيد بيان لما يتضمنه الوحي، وما يتبع هذا البيان من تفصيل للأحكام وتوضيح للمُشكلات، حيث أنه من المعلوم أن القرآن يتضمن الأصول الإجمالية لكثير من الأحكام والعبادات الأساسية، كالصلاة مثلا، في حين أن تفاصيل هذه الأحكام لم ترد إلا من خلال بيان النبي لها... فهل هذا البيان من النبي مما لم يرد في القرآن ملزم أم ليس بملزم ؟ 

فإن كان ملزما، أليس هذا مناقض لدور الرسول كما يعرّفه طرابيشي ؟ ألا يُصبح من قبيل تدخل الرسول في الوحي وتجاوزه لوظيفته ؟

وإن لم يكن ملزما، ألا يتناقض هذا مع قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم) حيث فرّق تعالى بين الذكر المُنزل وبين بيانه ؟

هذه الإشكالية تجاوزها طرابيشي دون الإشارة إليها... ولو أنه لم يقصُر الوحي على القرآن فقط، لتبيّن له أن لا إشكالية بين الآيات التي ساقها في توضيح مفهومه للرسالة وبين دور الرسول في بيان وشرح وتفصيل ما أوحي إليه، وهذا البيان والشرح والتفصيل ليس سوى سنته التي يعتبرها طرابيشي (الغائب الكبير في النص القرآني) [ص. 85] في حين أنه لو أعاد النظر في مفهومه للوحي والرسالة ودور الرسول، لوجدها، أي السنة، واضحة جلية في ثنايا النص القرآني...

ومن المآخذ على طرابيشي في مبحثه هذا، الإنتقائية التي يمارسها في التعامل مع النصوص لتطويعها في خدمة مشروعه؛ فنجده يتمحّل التأويلات لقوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه) وينتقي من كلام المفسرين ما يخدم فكرته، في حين أن هذه الآية مفسرة بوضوح وجلاء في قوله تعالى (لا تُحرّك به لسانك لتعجل به) كما ذهب إليه أغلب المفسرين الذين يتغاضى طرابيشي عن نصوصهم بهذا الشأن ليصرّ على أن (هذه الآية تحتفظ بمدلولها كاملا من وجهة النظر التي تعنينا هنا، وذلك بقدر ما تدل على نهي الرسول عن استباق الوحي وإصدار حكم من عنده لم يأذن به الله) [ص. 15]

ورغم ما يبذله طرابيشي من جهد في جمع النصوص وحشدها لإثبات فكرته، إلا أنه يقر بأن هناك إشكالا في تعريفه للوحي وفهمه لدور الرسول حين يتوقف عند الآيات الثلاث الأولى من سورة التحريم، وخصوصا قوله تعالى (فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض) فيرى أن هذه الآيات (تُثير إشكالا آخر وأساسيا من منظرو لاهوت التنزيل القرآني) [ص. 49 – هامش 83] لكنه يكتفي بمواجهة هذا الإشكال من خلال طرح الأسئلة التالية:
(- إذا كان الله قد أظهر نبيه على ما فشت به بعض أزواجه، فهل هذا الإظهار من قبيل الوحي أم لا ؟
- وإذا كان من قبيل الوحي، فلماذا لم يترجم إلى تنزيل قولي في النص القرآني ؟
- إذا كان وحيا، فكيف جاز للنبي أن يعرّف بعضه ويُعرض عن بعض ؟) [ص. 49 – هامش 83]
دون أن يكلف نفسه عناء الإجابة عليها، أو أقله، مراجعة موقفه بشأن الوحي وتعريفه للرسالة ودور الرسول... ولو أنه قام بهذه المراجعة، لبان له تهافت ما يحاول إثباته...

ومن التناقضات التي وقع فيها طرابيشي تقريره (أن الرسول ما كان أمامه من خيار سوى أن يُشاور الناس لأنه كان في ذلك مأمورا بمقتضى الآية 159 من سورة آل عمران (وشاورهم في الأمر)) [ص. 62] ومحاولته تهويل موقف المفسرين وأهل الحديث من خلال (التملص من منطوق هذه الآية) [ص. 62] حتى أنه يتهم الوعي الديني أنه (ما كان له أن يطيق تصوّر الرسول مأمورا لا آمرا ناهيك عن أنه مأمور بأن يُشاور من قد يكونون أساؤوا إليه) [ص. 64]. من غير أن ينسى إعطاء أمثلة على مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الحرب والأسرى وغيرها... للتدليل على وجهة نظره...

ليعود بعدها ببضعة صفحات، وفي معرض محاولته تأويل، بل تحريف، الآيات التي تدعو لطاعة الله وطاعة الرسول، وتكرس ثنائية الطاعة من خلال التمييز بين طاعة الله وطاعة الرسول؛ ليقرّر أن هذه الآيات التي تأمر المؤمنين بطاعة الرسول (لا تأمرهم بإطاعته إلا في الأمور العملية، أو الدنيوية بتعبير أدق، من قبيل الحرب أو قسمة الغنائم) [ص. 71] فعجبا لهذا التناقض !

والعجب لا ينقضي من جرأة طرابيشي في تعطيل دور الرسول المُبيّن والموضّح والمفصّل ليحصره بالمبلّغ فقط، بل يتجاوز هذا التعطيل ليجعل الرسول في مستوى دون مستوى البشر...

ففي حين يحق لطرابيشي قراءة وتوجيه وتأويل النص القرآني، فإن الرسول ليس (له حق التصرّف أو التأويل) [ص. 84] بل حتى لو أراد الرسول ممارسة حقه الإنساني في أن يقول أو يفعل، فإنه عند طرابيشي لا (يصيب أو يخطئ كغيره من البشر، بل يضل بكل تأكيد !!!) [ص. 84]

فلم تعد المسألة تجريدا للرسول من دوره الرسالي ومحاولة تحريف هذا الدور، بل تجريده من إنسانيته ليصبح مجرد "صندوق بريد"... وهو التعبير الذي كان ينقص طرابيشي إستخدامه لتكتمل فكرته وتتضح دون أي لبس...

ليست هناك تعليقات: